فنان عصى على المحاصرة النقدية ورائد حوار خلاق بين الذهن والمخيلة - أ.د خليل قويمة

الفنان التشكيلي محمد بن مفتاح من رواد فن الغرافيك أو فن الحفر بتونس والعالم العربي تخرج من المدرسة الفنون الجميلة بتونس سنة 1966 في اختصاص من التصوير الزيتي ثم درس بمدرسة الفنون الجميلة بباريس، حيث خبر بتقنيات رومبرانت ورينانس، وتمكن من مجمل تقنيات الحفر بالماء الحمضي على الصفائح المعدنية الطباعة الحجرية أو الليتوغرافيا، سنة 1969. قضى سنة بالحي الأولي للفنون بباريس وخاصة تقنيات بيران وحصل على ديبلوم من كما حيث قام بتجارب لتعميق رؤيته الفنية عمل على تدريس هذا الفن لأكثر من ثلاثة عقود بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وقد كون عدة مبدعين . من أجيال مختلفة. أقام عديد المعارض الفردية وله مشاركات فنية . في عدة صالونات ومعارض تونسية ودولية في مجال من الحفر وكذلك في التصوير الزيتي والمالي (تونس باريس سان فرانسيسكو، دلهي بالهند، الرباط، الكويت الإسكندرية…
وبعد هذا المعلم الكبير من بناة الثقافة الفنية الحديثة في تونس وأحد أبرز أيقوناتها التاوية في المشهد التشكيلي بل و مفتاحا خفيا لفهم تجارب تأسيسية كبرى في مسارات الثقافة الوطنية راوحت بين الفن والتقنية والمعرفة وروح التقاني والإيمان بقدرات الشباب في مراكمة الخبرات وفتح افاق الفن على الأمتوقع والقيم الخلاقة.
وفي شهادة الفنان إبراهيم العزابي (2005)، كان بن مفتاح العيا منذ أن كان طالبا بمدرسة الفنون الجميلة بتونس حيث كانت رسومه تعلق على جدران المدرسة ليستفيد منها زملاؤه قبل أن قبل أن يتخرج بامتياز ويحصل على الجائزة الرئاسية التي سمحت له بمواصلة تكوينه بباريس وكان من بين مجموعة من المتخرجين التي ضمت فنانين لا يمكن أن يضاهي سوى بالمنجز الذي عرف به فنانو شرق كبارا كيارا من عبار الفنان الراحل رفيق الكامل كما أن لبن مفتاح من الخبرة التقنية في الرسم الخطى والفضاءات للحضورة والمطبوعة بالأسود وفي تقنية الأكريليك أيضا ما أوروبا (بلغاريا خاصة) الذين لهم السبق اليوم الغرافيك في فنون
وإلى جانب زملائه من الأساتذة الفنانين، مثل الهادي اللبان وفوزية الهيشري تصدى بن مفتاح للإشكاليات الكبرى التي حقت بملف فنون الحفر والطباعة ومنها تهاوي مكانة المحظورات الفنية في مبادلات الاقتناء الفني للأعمال التشكيلية وسيطرة من اللوحة الزمنية في مادة المعارض وكذلك التطور التكنولوجي في مجال التقنيات الحديثة بنة وتغير و منظومة المفاهيم التي كانت نسيج الممارسات الإبداعية. إن عمل الرجل على مقاومة مختلف العراقيل التي اعترضت استمرارية ورشة الحفر ونجح إلى حد كبير في في تمرير رسالته بأمانة ومختلف فناني الحفر الناشطين في تونس مدينون لهذا الأستاذ بالكثير بدءا من محمد بن عباد الذي يقول أنه تعلم عنه التقنية والخير والجودة) وصولا إلى باكر بن فرح وناجي الثابتي وكمال عبد الله ورشيدة عمارة وإسلام بالحاج رحومة وسلوى العايدي وغيرهم…
يجمع بن مفتاح تاح بين الغيرة التقنية التي كونها على مستوى فن التصوير. وفن الحفر وبين جمالية بمقتضاها يكون القضاء التشكيلي متماسكا متوازنا ينبني على فكار تشكيلي أساسة الإدراك الأهلي لما لا تراه العين . وما تستدرجه عبر المعادلات المعقولة، وكلاهما يمثلان استفادة من تاريخ الفن وخاصة من الإرث الفني الذي تركه عصر النهضة الأوروبية، وفي نفس الوقت من قدرة هذا الفنان على تجاوز الإرث الأكاديمي من أجل قول ذاته إبداعية، على نحو مخصوص وبين هذا وذاك يكون السؤال: هل ترسم من إذا كان الفن لدى وتحفر ما تراه العين .. أم ما يتصوره الذهن إذا كان الفن بن مفتاح تقديم رؤية أخرى للعالم، أكثر إنسانية ودفقا وجدانيا، فعلى أي أساس ستكون هذه الرؤية المتفردة، على أساس . ما تنظر إليه أم . على أساس ما تفكر فيها ثم ما على أن يكون دور كليد التي ترسم وتحفر وتداعب الخطوط والأشكال والعلامات هل هي مجرد أداة تنفيذ أم هي امتداد فيزيولوجي وجمال النبض الجسد المنفعل في لعبة التشكيل اليه والفاعل في صياغة صورة أخرى للعالم والأشياء وهي ترتجّ في حلاوة الغموض.
فنان الجمالية الذهنية: في أعمال بن مفتاح سواء بالتصوير الزيتي (مشاركاته الأخيرة في معارض اتحاد الفنانين التشكيليين بقصر في الذين)، حيث الشخوص النجاسة وتتداخل في تشكيلات شبه سوريالية أو في محفوراته الحمضية السوداء (معرضه الفردي بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون منذ عشرين سنة) حيث على العكس من ذلك تماماً، يقدم طبيعة ساكنة في غاية الثقة بطريقة الواقعية المفرطة إلى حد يختلط الأمر بين المحفورة والصورة الفوتوغرافية أو في أعماله المانية (مشاركته في معرض مائيات تونسية ». دار الفنون بالبلفيدير سنة 1997)، حيث القضاء مفرق في التجريد ويتأسس على حركية اللمسات وما لمؤذي به العامة الثانية المرئة من امتزاجات لونية طارئة غير منتظرة
فإن منظومة العلامات في الفضاء التشكيلي تنبني على دقة ذهنية في هندسة التحليل والتركيب والتأليف وضبط طريقة إخراجها الفني وتصريف عناصرها الضوئية والبنائية، مثل هندسة العلاقات الشكلية وخط القوة ومختلف التوازنات البصرية التي تسترجع في اللوحة ماهياتها الذهنية الخالصة. كل شيء محسوب في ذهن الفنان ولا مجال للطرطشات
اللونية المرتجلة، وهكذا يبدو بن مفتاح عاقلا في معالجة لمساته المعقولة التي ترتد إلى خطوطه الذكية بوصفها عناصر هندسية ترتد في الأخير إلى ما هو ذهني خالص، بما في ذلك أعماله المائية التي تبدو أكثر حرية وأكثر الحظوية في الأداء.
لكن من خصوصية التجربة أن الفنان شديد الولع بالزبط بين الملكات في لعبته الفنية، أي بين المخيلة الخلاقة وبين الذهن المتبصر بلغة الجمالية الكانطية، أو بين الهندسة البنائية وبين الانفعال الأكثر تعبيرا عن الحساسية الإنسانية وهي تداعب صور العالم في أطوارها الباكرة، بين الفكر واليد بين البناء الفني ومختلف التفاصيل، كما بين انفعالات الهول جزاء الحروب والكوارث وبين الاستمتاع بأدق التفاصيل التي تغازل جمالية الإدراك الطفولي (محفورة « هول الحرب »، نموذجا، (1977)
فنان التفاصيل الخفيّة يبدأ الفنّ من قدرة اليد على التنفس »:
قال الفنان في حوار مع الفنانة والناقدة نجاة الذهبي موقع صوت (2019) – أتعلم كيف أسكن في الرسم وأن يسكن الرسم في من خلال إتقان التفاصيل الدقيقة وغير المرئية بيني وبين الفن أسرار روحانية ركيزتها قدرتي على إتقان الرسم، لا أهتم بالمواضيع الوجودية في المطلق كل الموضوعات يمكن أن ترسم في التفاصيل الصغيرة الصعبة.. أنظري إلى كل الأيدي التي أرسمها وستكشفين خشونة الحياة…
يبدأ الفن من قدرة اليد على التنفس »، وفعلا أن نترك جانبا ما يسميه عالم اجتماع الفن الفرنسي، بيار بورديو بـ « المانستريم MAXTREAM » أي الموجة الضارية في مبادلات سوق الفن، وأن نعود إلى كنه الأشياء البصرية بالاعتماد على التفاصيل الدقيقة التي تتكون منها، فذلك خيار جمالي « صعب » تقوم على ضوته خصوصية الرؤية الفنية وما يمكن لحوار العقل واليد أن يهديه للفن. لا يقدم بن مفتاح عالمه في رؤية طيفية، كما لدى جماعة التشخيصية الحرة »، بل هو فنان النفاذ إلى تفاصيل التفاصيل. إنه يسكن الفن ليتحسس عالم التفاصيل « الصغيرة » التي تصبح في مجرى السياقات التأويلية قضايا مصيرية كبرى، إن فن بن مفتاح يستدرج الفعل التأويلي وليس نسقا مغلقا. ولا يمكن أن نفي الرجل حقه دون عرض منجزه على محك التأويل النقدي والجمالي، على نحو ما، وهو ما حدا بالناقد العراقي فاروق يوسف إلى القول العرب 2021) » ليس من اليسير أن يجمع الرسام بين التقنية الغربية والرؤية الشرقية. يحلم الكثير من الرسامين العرب بأن يصلوا إلى ذلك المستوى الرفيع من الأداء وهم يفكرون في الهوية تلك مشكلة بدأت في خمسينات القرن الماضي ولم تكن الحلول إلا وصفات جاهزة قلة من الرسامين العرب سعت لأن تعيد المحاولة بعد أن هربت الغالبية في اتجاه التجريب الفني الغربي من بين تلك القلة يقف التونسي محمد بن مفتاح في المقدمة. بل قد تعتبر تجربة هذا الرسام هي الأهم في ذلك المجال في المشهد الفني العربي المعاصر ».
يبقى محمد بن مفتاح فنانا زلوقاً، عصيا عن المحاصرة النقدية، فهو يظل قافزا من تقنية إلى أخرى ومن أفق إلى آخر، مراوغا، وأكبر بكثير من نصوص النقاد، رغم أن النصوص التي كتبت عنه قليلة جدا ونادرة وليست في حجم منجزه الكبير، وحبذا لو ينتظم له معرض استرجاعي وينشر له كتاب شامل يوثق ويحلل مختلف المراحل الفنية التي مر بها. كما يبقى متجاوزا لذاته ويأبى أن يتكلس في أقنوم فني بعينه. إنه خارج منطق الشوق و « ما يطلبه المشاهدون ». وهو فنان صامت صامد شحيح الكلام، انطوائي وقليل الاختلاط، يمقت الثرثرة، ولكنه غزير الإنتاج ومنفتح على مستطاع الفن وأفاقه الرحبة. إنه فنان ساكن في الـ « ما بين وتصعب محاصرته. يعيش في عمق المفارقات ويصنع منها معادلاته الجمالية الكبرى ما بين خشونة الحياة ومرونة الفن بين الحقيقة واللذة بين الذهن والمخيلة بين الخط الدقيق واللمسة الجامحة، بين صمت الذات وضجيج العالم… والنظر مستمر…
الشارع الثقافي – 2023.01.10